الوضع الليلي
Image
  • 23/12/2024
الدولة الاجتماعية بين تحديات التنزيل ورهانات التفعيل الدولة الاجتماعية في المغرب بين رغبة  التنزيل وإكراهات الواقع

الدولة الاجتماعية بين تحديات التنزيل ورهانات التفعيل الدولة الاجتماعية في المغرب بين رغبة التنزيل وإكراهات الواقع


الدولة الاجتماعية بين تحديات التنزيل ورهانات التفعيل
الدولة الاجتماعية في المغرب بين رغبة التنزيل وإكراهات الواقع

لكي نتحدث عن الدولة الاجتماعية يجب أن تتوفر مجموعة من المقومات : أولها التوفر على نظام ديمقراطي ، وتعاقد واقعي مع المجتمع ، وكذا نظام اجتماعي يضمن للمواطن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. والمؤكد أن الدولة الاجتماعية أصبحت ضرورة حتمية ، فرضتها الأزمات المتتالية التي شهدها العالم ، ابتدأت بموجة الليبرالية الجديدة والتي انبنت على قرارات متسرعة وخطيرة، بسبب الإملاءات ، التي أدت إلى اجتياح ظاهرة الخوصصة، وأفضت إلى ما يمكن أن نسميه " مافيا عالمية " كانت السبب الرئيسي في أزمة 2008، الشيء الذي جعل الجميع يقر بان" النيوليبرالية " ليست هي الحل، بل هي أم المشاكل . مما يؤكد أن المعيار الذي اعتمده البنك الدولي ، و صندوق النقد الدولي لم يكن صائبا . والمغرب نفسه لم ينج من هذه الموجة ، والتي دفعت به إلى ما سمي بالمغادرة الطوعية ،هذه الأخيرة كانت بمثابة نزيف أدى إلى شلل في مجموعة من القطاعات . ومما زاد الطين بلة هو جائحة ( كوفيد 19 ) والتي أبانت للجميع وبشكل واضح أنه لا يمكن الاعتماد على الخوصصة وتجاوز الدولة . دون أن ننسى كذلك الحرب الأوكرانية وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي ، مما أدى إلى ارتفاع قياسي للأسعار في الاسواق العالمية والمحلية ، وانعكس سلبا على القدرات الشرائية للمواطن في معظم الدول . كما زاد الاحتباس الحراري من انعكاساته المناخية والسلبية على أزمة الماء والقطاع الفلاحي .
كل هذه الأمور جعلت الحاجة ماسة إلى تبني الدولة الاجتماعية.
ومن هنا أتساءل عن مفهوم الدولة الاجتماعية؟ كيف ظهرت ؟ وبالتالي هل يمكن الحديث عن دولة اجتماعية بالمغرب ، أو بمعنى آخر هل يمكن القول أن المغرب في طريقه نحو إرساء الدولة الاجتماعية ؟

إن الدولة الاجتماعية هي الدولة التي عليها مسؤولية حماية المواطنين والمواطنات من إمكانية الوقوع ضحية اقتصاد السوق الرأسمالي ، وعليها واجب تقديم المساعدات والعون للفئات الضعيفة في المجتمع ، كما أنها تضمن التوزيع العادل للثروات، من خلال الموارد والخدمات ، خصوصا في مجال التقاعد والشيخوخة والتأمين والعجز وغيرها من المخاطر التي تهدد الإنسان . فمفهوم الدولة الاجتماعية يرتبط بمجموعة من المتطلبات والتي بغيابها تصبح الدولة الاجتماعية مجرد شعار ليس إلا. وقد برز مفهوم الدولة الاجتماعية خلال القرن التاسع عشر، في ألمانيا على يد موحد الدولة الألمانية " بسمارك " وقد اقتصر في البداية على الحماية الاجتماعية ، ليشمل فيما بعد باقي المجالات الأخرى، والتي تعتبر الركائز الأساسية للدولة الاجتماعية .

أوتو فون بسمارك.. موحد ألمانيا
وما يجب الاشارة إليه ، هو أن الوعي بالاختلالات، وجسامة حجمها لم تكن وليدة اليوم، ولا مردها إلى جائحة " كوفيد 19 " أو حرب اوكرانيا فقط ، بل إن ذلك حصل مبكرا، ففي منتصف عقد التسعينات نبه الراحل الملك الحسن الثاني إلى قرب تعرض المغرب لسكتة قلبية مستندا على التقرير الشهير الذي أعده البنك الدولي عام 1995 م، والذي كان سببا في إدخال مجموعة من الإصلاحات الهيكلية على سياسات الدولة ومؤسساتها ، لاسيما في المجال الاجتماعي والحكامة الإدارية ، وتوالت بعد ذلك الأصوات المنادية بالاهتمام بالمسالة الاجتماعية والشروط العامة المرتبطة بها ، إلى أن جاء العهد الجديد على يد الملك محمد السادس والذي تميز بصدور وثيقة " تقرير الخمسينية " (2005) ، الذي أبانت خلاصاته المركزية عن فشل خطط التنمية التي اعتمدها المغرب منذ الإعلان عن استقلاله سنة 1955، وحتى مستهل الألفية الجديدة (2005) . وقد أعقبه تقرير آخر مكمل له ، يتعلق الأمر بالنموذج التنموي المطبق ، ووضع أسس بناء نموذج جديد. حظيت المسالة الاجتماعية بمكانة مركزية في بنائه، لذلك لا تبدو المسألة الاجتماعية غائبة أو غير مطروحة في تجربة مرور أكثر من ستة عقود على استعادة المغرب لاستقلاله الوطني . لكن المفارقة اللافتة أنه رغم تشخيص اختلالات المسألة الاجتماعية إلا أن الإرادة السياسية لم تكن حاضرة لتفعيل كل ما يتم التنظير له ، ولم تنفع معه التقارير المشخصة لمصادر أزمة المسألة الاجتماعية ، وبقيت حبرا على ورق، إلا أن جائحة " كوفيد 19 " كانت بمثابة منبه ، أيقظ العالم من سباته ، وجعل الدول تفكر في الاهتمام بالدولة الاجتماعية.

وهذا ما سيدفعني إلى التساؤل التالي : هل المغرب في طريقه نحو إرساء دولة اجتماعية ؟ وما هي الإكراهات التي تعيق عملية تحقيق الدولة الاجتماعية المنشودة ؟ يمكن القول أن ثمة سيرا حثيثا نحو وضع بعض أسس "الدولة الاجتماعية "، رغم أن الدولة الاجتماعية هي عبارة عن منظومة متكاملة لا يمكن تجزيئها. وقد حددها البرنامج الحكومي كالتالي : - تعميم الحماية الاجتماعية لجميع المواطنين . - تعميم التغطية الصحية . – إحداث الدخل الاجتماعي لتماسك وكرامة الأسرة المغربية. – رعاية صحية جيدة – تنمية الرأسمال البشري عبر مدرسة تكافؤ الفرص . فهل فعلا التزمت الحكومة بما وعدت به ، وهذا ما سأتطرق اليه بتفصيل ، فبالنسبة للدعامة الأولى : فإن مشروع الحماية الاجتماعية كما حدده صاحب الجلالة والمتمثل في تعميم التغطية الصحية الاجبارية لعموم المواطنين، شرع في تنفيذه فعليا سنة 2021 ،ذلك أن الذين كانوا يؤدون ضريبة جزافية ،تم تعويضها ب ( المساهمة المالية الموحدة ) رغم ما شاب هذه العملية من مشاكل – سبق أن تحدثت عنها في عدد سابق. تلتها الخطوة الثانية في سنة 2022 أي الشروع في تطبيق التغطية الاجتماعية لأصحاب الرميد ، وهو ما سمي بالتغطية الاجتماعية التضامنية المجانية. وكذا المرحلة الثالثة والتي انطلقت في شهر دجنبر 2023، هذه الأخيرة ابتدأت بمطالبة المواطنين والمواطنات الذين يعانون من الهشاشة الإسراع في التسجيل من أجل الحصول على الدعم المباشر ، وبالفعل سارعوا إلى تسجيل أنفسهم طمعا في الحصول على الدعم ، لاكن ما وقع كان محبطا لفئة عريضة من المواطنات والمواطنين الذين حرموا من الحصول على المساعدة بسبب انخداعهم من طرف " المؤشر" المعتمد وهو أن لا يتعدى (9.3 ) هذا المؤشر ذو المعايير المبهمة فاجأ الجميع . لتجد فئة عريضة ممن يعانون الهشاشة والفقر محرومين من هذه المساعدة الهزيلة ، والتي رغم قلتها فهم في حاجة ماسة إليها . وهنا لابد من تسجيل ملا حظة أساسية وهو أن تنزيل هذا الدعم طرح بعض الشكوك منذ بدايته، وكان مخيبا للفئات الهشة والفقيرة التي كانت تنتظره بشوق لكي تسد به بعض احتياجاتها الأساسية ، رغم هزالته اي (500 درهم ) .

وهناك بعض المطلقات والأرامل اللائي لا يملكن حتى قوت يومهن ، وحرمن من الدعم المباشر ، بدعوى أن مؤشرهن تجاوز العتبة المحددة وهي (9.3) وطالبوهن بإضافة بعض الاشخاص معهن عسى أن ينزل المؤشر على العتبة ، وبالفعل تمت إضافة أشخاص معهن ، وفعلا حصلوا على العتبة أي أقل من (9.3 ) . وهناك أشخاص تحت الهشاشة ، إلا أن مؤشرهم فاق العتبة المحددة ولم يستفيدوا من الدعم . أظن أنه إذا كان الشخص يتوفر على اشتراك هاتفي بسيط من أجل استعماله في دعم أبنائه الذين لم يلتحقوا بالمدرسة لمدة ثلاثة أشهر من الإضرابات ، فإنه يساهم في ارتفاع المؤشر ويحرمه من الدعم . ليجد نفسه مجبرا على أداء اشتراك شهري بمبلغ يتحدد حسب درجة ارتفاع كل مؤشر على حدة . فطبق عليه المثل القائل : ( أراد أن يختبئ من الأمطار ، فجرفته السيول ) .
وهذا مجرد نموذج من عدة نماذج مختلفة ومتشابكة . أليس هذا عبثا ، إن لم أقل قمة العبث بكرامة مواطنات ومواطنين لا حول لهم ولا قوة . وقد يتساءل سائل قائلا : هل هذا الدعم المحدد في (500) درهم يضمن للمستفيد العيش الكريم ؟ أم أنه يزيد الطين بلة، ويساهم في تشجيع البطالة، ونشر ثقافة الاتكال ، والرغبة في الاستفادة دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن عمل، مما ينعكس سلبا عليه وعلى أبنائه وعلى المجتمع ككل . فنحن مع مساعدة المعوزين والفقراء لكن بطريقة تحفظ كرامتهم وتحفزهم على العمل والإنتاج . فكان من الأولى على الحكومة أن تستغل هذه المساعدات لتخلق بها شغلا قارا لهؤلاء ، يحسون من خلاله أنهم يبذلون مجهودا يتقاضون عليه أجرا ، فنربي فيهم حب العمل، ونملأ أوقات فراغهم، لكي لا يبقوا عرضة للشارع والفراغ القاتل، والذي قد يؤدي بهم إلى مالا تحمد عقباه . ونكون بذلك قد ساهمنا في بناء المجتمع وتقدمه ، عوض خلق جيل اتكالي خنوع وبئيس وفقير، ونعمل بذلك على إنتاج وإعادة إنتاج نفس الهياكل ، ليبقى الفقير فقيرا والغني غنيا .وتصبح بذلك الطبقة الهشة مجرد أرقام وأدوات انتخابوية ليس إلا .

أما إذا انتقلنا إلى الحديث عن الصحة باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات الدولة الاجتماعية، فيمكن القول ، لا نجاح لتعميم التغطية الصحية دون تأهيل حقيقي للمنظومة الصحية .فبالنسبة للحماية الاجتماعية ، الحكومة ادعت أنها ستعمم بطاقة التامين الإجباري عن المرض بالنسبة لجميع المواطنين والمواطنات ، وأن الناس الذين لديهم الرميد سيتم نقلهم الى الضمان الاجتماعي ، وحتى الذين كانوا خارج الرميد سيتم ادماجهم وحصولهم على بطاقة التغطية الصحية عن المرض . ولكن هؤلاء الذين سيتم حصولهم على البطاقة اين سيتوجهون للاستشفاء ؟ هل هناك مشروع موازي من أجل النهوض بالصحة في البلاد ؟

نحن لا ننكر أن هناك مجموعة من كليات الطب قد بدأت تستحدث في المغرب، ويستحدث بجانبها مستشفى جامعي . لكن هذا غير كاف لأن هناك سبع جهات أخرى لا تتوفر على مراكز استشفائية جامعية ، ناهيك عن المستشفيات الاقليمية التي تعاني من قلة الاطر و التجهيز، فهناك من توجهوا الى المستشفى العمومي الاقليمي لإجراء عمليات جراحية بسيطة ، لكن لم يتم قبولهم بدعوى أن المستشفى لا يتوفر على الوسائل الضرورية لإجراء العمليات الجراحية . وكانوا مضطرين للتوجه الى مصحات خاصة لانهم يتوفرون على الضمان الاجتماعي ، لكنهم تفاجأوا بالمبالغ المرتفعة التي تطالبهم بها المصحات كفرق يؤدونه نقدا رغم توفرهم على بطاقة الضمان الاجتماعي، وحتى الذين ذهبوا للتطبيب ممن لديهم بطاقة التغطية الاجتماعية المجانية (الرميد) سابقا ، فإنهم صدموا بمواعد تصل إلى 6 أشهر فأكثر . مما يجعلهم يلجؤون الى الطب التقليدي رغم مخاطره . وهناك كذلك نقص في الموارد البشرية بسبب هجرة الاطباء الى الخارج نتيجة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعانون منها ، دون ان ننسى الغلاء الفاحش في الادوية . فعن أية رعاية صحية يتحدث البرنامج الحكومي ؟

أما الحديث عن التعليم باعتباره مكونا أساسيا من مكونات الدولة الاجتماعية، فقد شهد ويشهد فشلا ذريعا رغم الإصلاحات المتكررة . وقد استبشر الجميع خيرا بالنموذج التنموي الجديد ، الذي تمكن من إجراء تشخيص لبعض أوجه النقص والضعف في منظومة التربية والتكوين ، وأقر بوجود أزمة في التعليم اختزلها فيما أسماه " وجود أزمة ثلاثية الأبعاد " يقصد بها أزمة ضعف جودة التعلمات – وفقدان الثقة في المدرسة العمومية وهيئة التدريس – وتعطل وظيفة المدرسة كمصعد اجتماعي . ووعد بإصلاح المنظومة التربوية . لكن لا هذا ولا ذاك ، وأن التعليم في بلادنا يسير من سيء إلى أسوا. والدليل على ذلك هي الإضرابات التي خاضها نساء ورجال التعليم من أجل كرامتهم وتحسين وضعيتهم المادية، خلال الموسم الدراسي الحالي ، والتي تعدت ثلاثة أشهر ، بقي خلالها تلاميذ المدرسة العمومية ، محرومين من الدراسة طيلة هذه المدة، والوزارة الوصية في سبات عميق ، همها الوحيد هو تطبيق إملاءات صندوق النقد الدولي من خلال محاولة تمرير نظام أساسي مجحف ، لا يراعي لا مصلحة التلميذ ، ولا الأستاذ كفاعل أساسي وكقطب الرحى في كل إصلاح . هدفه الأساسي القضاء على المدرسة العمومية ، وتشجيع التعليم الخصوصي ، وفعلا نجحت في ذلك . حيث أغلبية تلاميذ العمومي قد نزحوا إلى الخصوصي خلال فترة الاضرابات ،مما خفف على الوزارة من عبء الاكتظاظ ، والنقص في الأساتذة. ولم يبق في العمومي إلا تلاميذ الفئات الهشة الذين لا حول لهم ولا قوة . فأين هي مدرسة تكافؤ الفرص التي نادى بها البرنامج الحكومي؟ علما بأن التعليم هو الأرضية الصلبة للتنمية المحلية، والقاعدة الاساسية للسير بالدولة إلى تحقيق الأهداف المنشودة .
وخلاصة القول إن بناء الدولة الاجتماعية تحتاج إلى ثقافة وقيم جديدة تعيد الاعتبار للمواطن وتحفظ كرامته ، برؤية ديمقراطية وتشاركية لمعالجة الاختلالات التي نتجت عن الليبرالية الجديدة ببرامجها القاسية ، وذلك بتنزيل برامج اجتماعية بديلة وحقيقية تنهض بالتعليم والشغل والصحة والسكن ، وتجديد الأمل في مجتمع يضمن الحرية والعيش الكريم للجميع بدون إقصاء أو تهميش ، ويؤمن بثقافة الاختلاف والاعتراف والإنصاف لبناء مجتمع قوي ومتضامن . لأن اتخاذ قرارات قاسية في مجال الشأن العام يخلق التوتر ويؤدي إلى تراجع الثقة ويولد الإحساس بالظلم والإقصاء، ويجعل المواطن يحس أن الدولة تتخلى عنه . كما يجب على الفاعل السياسي أن ينفتح على المواطن ويتواصل معه ، وينصت إلى همومه وانشغالاته ومطالبه ، لضمان التعبئة الجماعية والمتضامنة لإيجاد الحلول لمختلف التحديات والمشاكل الاجتماعية ،للحد من مضاعفات الأزمة على الحياة المعيشية للمواطن ، وانعكاساتها المدمرة . كما يجب على الفاعل السياسي أن يلتزم بوعوده الانتخابية ، باعتماد الحكامة والشفافية وكذا ربط المسؤولية بالمحاسبة ومحاربة الفساد . وإذا كنا نرغب فعلا في بناء الدولة الاجتماعية في هذه الظروف الصعبة فإن طبقة الأغنياء ورجال الأعمال مطالبون اليوم بتحمل تكلفة الأزمة الاجتماعية ، وليس فقط الطبقة المتوسطة والفقيرة خدمة للدولة الاجتماعية المنشودة ، وذلك بالتراجع عن موجة الغلاء في المحروقات وباقي المواد الغذائية الأخرى، من أجل الحد من التوتر والاحتقان المجتمعي.
محمد ابركي