
المتقاعد المغربي بين مطرقة الغلاء وسندان الإهمال الحكومي
يصادف فاتح أكتوبر من كل سنة اليوم العالمي للمسنين، وهي مناسبة تحتفي فيها الأمم بحقوق كبار السن وتعترف بجهودهم في بناء الأوطان. لكن في المغرب، يمر هذا اليوم على شريحة واسعة من المتقاعدين في صمتٍ مطبق، يُخفي وراءه جراحاً غائرة ومعاناة يومية تتكرر منذ سنوات طويلة. هؤلاء الذين أفنوا زهرة شبابهم في خدمة الدولة والمجتمع، يجدون أنفسهم اليوم يواجهون واقعاً قاسياً: معاشات هزيلة لا تكاد تكفي حاجاتهم الأساسية، وارتفاعاً متواصلاً للأسعار، في وقتٍ تتعاقب فيه الحكومات دون أن تُبدي اهتماماً يُذكر بملفهم.
معاشات هزيلة في مواجهة الغلاء الفاحش
تُعدّ معاشات التقاعد في المغرب من بين الأضعف مقارنةً مع تكاليف المعيشة. فالكثير من المتقاعدين يتقاضون رواتب تقاعدية تقلّ بكثير عن الحد الأدنى للعيش الكريم، ولا تتجاوز في حالات عديدة 1500 أو 2000 درهم شهرياً. كيف يمكن لمتقاعد أن يغطي بهذا المبلغ مصاريف السكن، الكهرباء، الماء، العلاج، التنقل، والغذاء، في وقتٍ ارتفعت فيه أسعار أبسط المواد الأساسية كالخبز، الزيت، والخضر؟
الحقيقة المؤلمة أن الأجور التقاعدية لم تُساير التطورات الاقتصادية ولا موجات الغلاء المتكررة. فبينما تُحدث الدولة زيادات دورية في الأجور لموظفيها النشيطين، يبقى المتقاعدون خارج دائرة الاهتمام، وكأنهم انتهت صلاحيتهم بمجرد خروجهم من سوق العمل.
الغلاء… عدو المتقاعد الأول
منذ سنوات، يشهد المغرب موجات متتالية من ارتفاع الأسعار، خصوصاً في المواد الغذائية والأدوية وخدمات الصحة والنقل. هذه الزيادات غير المسبوقة جعلت معاش المتقاعد يتبخر في الأيام الأولى من الشهر، ليجد نفسه مضطراً إلى الاستدانة أو الاعتماد على مساعدة الأبناء والأحفاد.
لقد تحول الغلاء إلى كابوس يومي يطارد المتقاعد المغربي:
- دواء ضغط دم أو سكري يفوق نصف المعاش الشهري أحياناً.
- فاتورة ماء وكهرباء تثقل الكاهل مع بداية كل شهر.
- ارتفاع أسعار المواد الأساسية يلتهم ما تبقى من الميزانية.
إنها معركة غير متكافئة بين معاش جامد وأسعار متحركة إلى الأعلى باستمرار.
حكومات لا تكترث
أكثر ما يزيد من مرارة وضع المتقاعدين هو لا مبالاة الحكومات المتعاقبة. فمنذ سنوات، يُطرح ملف التقاعد للنقاش، لكن كل حكومة تفضل الحلول الترقيعية أو تتذرع بضعف الميزانية، بينما تُهدر الأموال في ملفات أقل إلحاحاً.
- لا توجد مراجعة دورية للمعاشات تربطها بمستويات التضخم.
- لا توجد زيادة استثنائية تواكب موجات الغلاء.
- لا توجد إستراتيجية وطنية متكاملة تضع المسنين في قلب السياسات الاجتماعية.
بل إن الخطاب الرسمي غالباً ما ينحصر في ترديد مصطلحات مثل “الاستدامة المالية” أو “الإصلاح الصعب”، بينما الواقع يقول إن آلاف المتقاعدين يعيشون على حافة الفقرفي اردل أيام العمر.
شهادات من الواقع
- عبد القادر (68 سنة): موظف سابق قضى 35 سنة في الإدارة العمومية، معاشه لا يتجاوز 2200 درهم، بينما إيجار بيته في مدينة متوسطة وصل إلى 1500 درهم. يقول: “أجد نفسي أعيش بالشطر المتبقي وكأنني عالة على أبنائي”.
- خديجة (62 سنة): عاملة سابقة في معمل نسيج، لم تكن مسجلة في أي صندوق تقاعد، تعيش اليوم على مساعدة ابنها المهاجر في إيطاليا. تقول: “أخاف أن يتوقف ابني عن المساعدة يوماً، فمصيري سيكون التشرد”.
هذه الشهادات ليست استثناءات، بل هي صورة مصغرة عن واقع آلاف المتقاعدين في المغرب.
مسؤولية الدولة والمجتمع
إن ملف المتقاعدين ليس قضية مالية فقط، بل هو قضية كرامة وإنصاف. فهؤلاء بنوا المغرب بعرقهم وتضحياتهم، ومن حقهم أن يعيشوا شيخوختهم في أمان اجتماعي واطمئنان اقتصادي.
إن استمرار الحكومات في تجاهل هذا الملف يطرح تساؤلات حقيقية: كيف يمكن لدولة تتحدث عن “الحماية الاجتماعية الشاملة” أن تُهمل شريحة أساسية من مواطنيها؟ وأي رسالة تبعثها للشباب عندما يرون أن مستقبلهم بعد التقاعد لن يكون سوى معاناة وإهمال؟ الا يكون هذا الواقع هو الذي يدفع بالعديد من موظفي الدولة للارتشاء كي يوفروا المال الكافي عند تقاعدهم؟ فإن من يرى الأوضاع المزرية التي يعيشها المتقاعدون الذين كانوا بالأمس القريب موظفون و عمال و ضحوا بزهرة شبابهم من اجل بلد المفروض فيه أن يحفظ كرامتهم، يجعله هذا الوضع يفكر الف مرة كيف يعمل بإخلاص و تفان؟ و كيف يكتفي براتبه الذي لا يكفيه للادخار، و بالتالي سيعيش نفس المعاناة التي يتجرعها هؤلاء المتقاعدون. هذا وحده يجل الكثير من موظفينا و عمالنا لا يكتفون باجورهم مهما ارتفعت، بل يفكرون في جمع أموال إضافية و لو بطرق غير مشروعة. فليعلم المسؤولون أن محاربة الرشوة تنطلق من تحسين عيش المتقاعدين. فهم المثال الحي للعاملين حاليا، إذ كل واحد منهم و مهما صغر سنه، يفكر على الدوام في تقاعده الذي هو آت ان عاجلا أم آجلا. و يرى من كان رئيسه بالأمس، قد اصبح الان بعد تقاعده من الفقراء، و معاشه لا يوفر له العيش الكريم. بل و حتى العيش و فقط. الا يصدم هذا الموظف من هذا الواقع المر و يفكر أن يوفر لأردل العمر ما يغنيه عن أبناء قد لا يتحملون مصاريف الوالدين التي تعتبر عند الكثيرين زائدة او إضافية بعدما يصبحون هم بدورهم متحملين لمسؤوليات بيوتهم و أبنائهم. هنا يبدأ العامل لا يفكر في عمله بمقدار ما يفكر في جمع الأموال الكافية لتقاعده. و هنا يفسد العمل و تصبح الرشاوى و الهدايا و الاكراميات هي المسيطرة. فيفسد كل شيء و مهما عملت الدولة و مهما فعلت من عقوبات، فإنها لن تفلح في الإصلاح. لكونها افسدت الأصل. الا و هو التقاعد، فيصبح الفرع بحكم ذلك فاسدا، الا و هو العامل النشيط الحالي. ألم يفكر المسؤولون في دولتنا في قبل المعادلة و اصلاح التقاعد. فهم بذلك يصلحون كل الوظائف. إذ كلما رأى الموظف و العامل أن المتقاعد ينعم بالعيش الكريم بعد تقاعده، فالعامل الحالي يرتاح في عمله و يحاول قدر الإمكان المحافظة عليه فيعمل بجد و اجتهاد و اخلاص تام، دون التفكير في أشياء تفسد العمل و المردودية كالارتشاء و المحسوبية و الزبونية و التماطل في العمل و الغيابات المتكررة إما لكونه العامل قد اصبح يكره عمله أو للبحث و العمل في أماكن او مجالات أخرى. فالعديد من الأطباء في القطاع العام يغادرون المؤسسات الاستشفائية العمومية التي يتقاضون على عملهم بها رواتب مهمة من الدولة و يلتحقون للعمل بالقطاع الخاص للحصول على أموال إضافية. بل و منهم من يدفع بمريض جاء لمستشفى عمومي الى مصحة ما هو يعمل بها، فيصبح كوسيط يوجه مرضاه من العمومي الى الخصوصي. و هذا موضوع عايشته بمستشفى محمد الخامس بمكناس، و كتبت عنه في حينه، لكن لم يتخذ أي اجراء ضد ذاك الطبيب. بل فقط تخاصم مع مريضه و كاد يطرده حتى من المصحة لولا عامل الفلوس. و كذلك الاساتذة الذين سمحت لهم الدولة بالعمل بالقطاعين العام و الخاص على أن يوزعوا اوقاتهم بين هذا و ذاك. و ذلك كي تدفع بالتعليم نحو الخوصصة. لكن للأسف اصبح بعضهم يقدم الشواهد الطبية للعمومي كي يعمل براحته في الخصوصي. و ليس التعليم و الصحة وحدهما الذين يعملان هنا و هناك. بل كل من استطاع أن يعمل ولو في حقله او متجره خلسة من الدولة، فلا يبخل على نفسه بذلك. لذا نجد العديد من الموظفين و المسؤولين في العديد من إدارات الدولة يتغيبون باستمرار مدعين انهم في اجتماعات لا تنتهي، و غالبا ما تكون خارج الإدارة التي يعملون بها. كل هذا راجع الى انعدام الراحة النفسية و المادية في العمل الذي و ان تعبت فيه لا يوفر لك لا الراحة و لا العيش الكريم فيما بعده، أي عند تقاعدك.
نحو حلول عاجلة
المطلوب اليوم ليس الاكتفاء بالخطابات، بل إجراءات عملية وملموسة:
- رفع تدريجي للمعاشات وربطها بمؤشر الأسعار.
- تعميم الإعفاء الضريبي عن المعاشات المتوسطة والصغيرة.
- إحداث صندوق وطني لدعم المتقاعدين الأشد هشاشة.
- تحسين التغطية الصحية وتوفير أدوية الأمراض المزمنة بالمجان أو بأسعار رمزية.
- صياغة إستراتيجية وطنية خاصة بالمسنين، تُعيد الاعتبار لهذه الفئة.
خاتمة
في فاتح أكتوبر، حين يتحدث العالم عن حقوق المسنين، يعيش المتقاعد المغربي يومه كسائر الأيام: بين همّ الفواتير، وغلاء المعيشة، ومعاش هزيل. الفرق الوحيد هو أن الصحف تكتب عنهم في هذه المناسبة، ثم يُطوى الملف حتى العام المقبل.
لقد آن الأوان ليُدرك صناع القرار أن المتقاعدين ليسوا أرقاماً تُدرج في تقارير الميزانية، بل هم آباء وأمهات، أساتذة وعمال، موظفون وجنود، خدموا وطنهم بصدق. تجاهلهم ليس مجرد خطأ سياسي، بل هو جريمة اجتماعية في حق فئة تستحق أن تُكافأ لا أن تُعاقَب.