ارتفاع نسب العنوسة في المغرب هل هي اختيارية أم قدر محتوم؟
العزوف عن الزواج بين تعطيل شرعية الطاقة العاطفية الجنسية وهدم استمرارية مؤسسة الأسرة.
- العزوف عن الزواج (العزوبية) تعطيل لشرعية الطاقة العاطفية الجنسية للإنسان، وقد تتوجه في طرق غير مشروعة، مما يؤدي إلى انتشار الفاحشة، واضطراب الحياة الاجتماعية والشخصية.
الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، والبيئة الأولى المسؤولة عن رعاية الأبناء،والجماعة الإنسانية التنظيمية التي يجب أن تحافظ على استقرار المجتمع وتطوره . وبقدر ما تكون الأسرة متماسكة، بقدر ما يكون المجتمع قويا ومتماسكا. والأسرة تتكون عن طريق الزواج الذي يشبع الحاجات النفسية والجسدية للأفراد، ويقمع الانحراف والشذوذ، ويوفر الهدوء والاستقرار، كما أنه حلم كل فتاة لتتوج ملكة على عرشها، وتمارس غريزة إنسانية أودعها الله قلب المرأة ألا وهي غريزة " الأمومة ". لكن في زحمة الحياة وتعدد مسؤولياتها، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجه الشباب والشابات، يوشك أن يتحول الزواج إلى سراب يلهثون وراءه بعد فوات الأوان خاصة مع ارتفاع نسب العنوسة بشكل مخيف يهدد أمن واستقرار المجتمع، بحيث أصبح الزواج مشكلة تعجز أمام حلها المعادلات الحسابية لتشكل في النهاية ظاهرة (أو ( كابوسا ) بات شبحا يهدد عددا كبيرا من الفتيات والفتيان . وهذه الظاهرة لا تقتصر على المغرب فقط ، بل هي ظاهرة عالمية ، تختلف حدتها من مجتمع لآخرتبعا لظروفه الاجتماعية والاقتصادية. إذن ماذا نقصد بالعنوسة؟ وما هي أسبابها ،ونسبها بالمغرب؟ وبالتالي هل العنوسة قدر أم اختيار؟وكيف يمكن القضاء أو على الأقل التقليل من حدتها؟
العنوسة لغة من عنُست البنت أي طال مكوثها في بيت أهلها بعد إدراكها سن الزواج ولم تتزوج، فهي عانس. هذا المصطلح يطلق على الأنثى والذكر، لكنه أشيع على الأنثى ولصق بها. فالعنوسة مصطلح شائك ومثير للجدل، فما بين مؤيد ومتقبل للمصطلح باعتباره يعبر عن إحدى المشكلات النفسية والاجتماعية الموجودة فعلا في جميع المجتمعات، وبين معارض لاستخدام هذا المصطلح باعتباره ينقص من قيمة من توصفن به ولا يليق بإنسانيتهن. وعلى الرغم من أن العنوسة لفظ أطلق على الجنسين ذكورا وإناثا، إلا أن ثقافة مجتمعاتنا العربية تركز على عنوسة المرأة أكثر من عنوسة الرجل باعتباره واقعا مفروضا على النساء، وليس باختيارهن في كثير من الحالات، وأيضا لارتباطه بسن الإنجاب لديهن، بينما في حالة الرجال فهو على الغالب باختياراتهم.ففي المجتمعات التقليدية يطلق مصطلح عانس على الأنثى بعد عمر 35 سنة، وذلك لأن مفهوم البنت عندهم يعتمد على إعدادها لتكون محط أنظار رجل يختارها كي تكون زوجته، وعندما لا يأتي هذا الشخص، فهذا يعني أنها (عانس ) أو بتعبير دارجي (بايرة ). علما أن ظاهرة العنوسة ليست قاصرة على المجتمعات العربية وحدها، وإنماهي ظاهرة عالمية، غير أن الغرب الذي يعاني أيضا من هذه الظاهرة، لا يشعر بحدتها مثل المجتمعات العربية، نظرا لأن الزنا عندهم ليس محرما. بل تظل المرأة تعاشر الرجل معاشرة الأزواج سنوات طويلة، وقد تنجب أبناء، وفي النهاية قد يقران الزواج أو الانفصال بكل بساطة. وإذا تصفحنا الإحصائيات التي تتحدث عن العنوسة في المغرب، نجد أن المندوبية السامية للتخطيط (كمؤسسة رسمية ) كشفت في تقرير لها عن معطيات مقلقة حول معدلات العنوسة في صفوف نساء المغرب وذلك ضمن تغيرات كثيرةطرأت على المنظومة الأسرية المغربية في السنوات الأخيرة. حيث أن40,7 في المائة لا زلن في مرحلة العزوبة في سنة 2022، وذكرت المندوبية أن المغرب انتقل من الزواج المبكر إلى الزواج المتأخر بشكل متزامن في الوسطين الحضري والقروي، كما أشارت المندوبية كذلك في نشرتها السنوية"المرأة المغربية في أرقام 2023" الصادرة بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، إلى أن معدل العزوبة عند سن الخمسين سنة ارتفع إلى 9.6 في المائة في صفوف الإناث سنة 2014، بعدما كان قد سجل 6,7 في المائة سنة 2010، و 5,3 في المائة سنة 2014. كما ساهمت العنوسة في انخفاض الخصوبة في السنوات الأخيرة، حيث أن أكثر من 60 في المائة من المغربيات المتراوحة أعمارهن ما بين 30 و34 سنة " عانسات ". وفي عام 2018 خلف تقرير مؤسسة "فاميلي أوبتميز" المتخصصة في دراسة كل مايتعلق بالأسرة والحياة الزوجية عن أرقام مخيفة تخص نسبة العنوسة في البلدان العربية ومن ضمنها المغرب، تحدثت فيه عن ملايين من المغربيات غير متزوجات، مما خلق جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، وانقسمت الآراء بين من يلوم المرأة نفسها، وآخرون يشجعون الأمر ويرون فيه بداية انفتاح في مجتمع محافظ. وأفاد التقرير بأن عدد النساء غير المتزوجات بلغ أكثر من ثمانية ملايين امرأة ، بما يعادل 60 في المائة من النساء في سن الزواج. ومع ارتفاع حالات العنوسة انخفضت معدلات الخصوبة لدى المرأة، فبعدما سجلت ذروتها في عام 1960 ب 7 أطفال لكل امرأة، تراجعت في الوقت الحالي لتسجل انخفاضا ب 2,38 طفل لكل امرأة. ذلك أن الخصوبة بلغت ذروتها في الستينات، لأن السياق السوسيوثقافي في المغرب آنذاك كان مواتيا، بحيث كانت الفتيات تتزوجن في سن مبكرة ( 17 عاما في المتوسط )، ناهيك عن ضعف استعمال وسائل منع الحمل لدى فئة لا تكاد تتجاوز 8 في المائة. هذه الدراسات تبين لنا مدى ارتفاع معدلات العنوسة في المغرب مما يجعلنا نتساءل عن أسباب ارتفاع هذه النسب، والتي يمكن من خلالها القول بأن هناك نوعين من العنوسة (حتمية أو قدرية )، و(عنوسة اختيارية أو ذاتية)، ولكل واحدة منهما أسبابها الخاصة بها. فبالنسبة للنوع الأول أي العنوسة الحتمية أو القدرية، نجد عدة عوامل منها التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، فهناك تزايد عدد السكان و تراجع فرص الحصول على عمل مناسب، وانتشار البطالة، والارتفاع المهول للأسعار، وغلاء المعيشة، مما يصعب على الشباب توفير متطلبات الزواج التي أصبحت باهظة، بدءا من المغالاة في المهر، وتكاليف حفل الزواج، وغلاء الكراء، وصعوبة اقتناء منزل، والأثاث المنزلي الفاخر الذي يكون مصدر تباهي الزوجات بجودته.هذه الامور وغيرها يجد الشاب نفسه عاجزا على توفيرها فينفر من الزواج. عامل آخر يتعلق بالأسر، حيث هناك بعض الأسر تشترط في الرجل الذي يرغب في الزواج من بناتهم، أن يكون ذا حسب و نسب معروف ، وابن فلان ... عامل آخر يتعلق ببعض الأسر الذين لهم طقوس معينة في تزويج بناتهم، حيث لا يزوجون البنت الصغرى قبل الكبرى مهما كانت الظروف، إلى أن يصبحن جميعهن عانسات. وهناك من عزا ارتفاع العنوسة إلى العامل الاخلاقي، نتيجة انتشار الفساد الاخلاقي تحت غطاء ما يسمى "الحريات الفردية " و "العلاقات الرضائية خارج الزواج" مما سهل على الشباب القيام بعلاقات حميمية تنسيهم في الزواج. هناك كذلك الشبكة العنكبوتية، التي سهلت الاتصال بين الجنسين، ونسج علاقات عن بعد وقد تكون عن قرب، الغرض منها إفراغ الشحنات الجنسية المكبوتة. مما جعل الشباب وحتى الشابات يدمنون عليها، ويجدون فيها متنفسا لمكبوتاتهم، ولا يفكرون في الزواج. كما أن ارتفاع نسب الطلاق، وكثرة نزاعات الأزواج المعروضة على محاكم الأسرة، تخيف الشباب المقبل على الزواج، وتجعله ينآى بنفسه، وبالتالي يعزف على الزواج. وهناك من الشباب من يسعون إلى الحفاظ على استقلاليتهم، مادامت كل متطلبات الحياة متوفرة لديهم. دون أن ننسى دور الإعلام وعلى رأسه التلفزة والسينما اللذان أثرا تأثيرا عميقا في نظرة الشباب إلى الزواج، حيث كثيرا ماتصوره على أنه قيد يعوق انطلاق الشباب وتقدمهم، مما جعل أغلبية القادرين على توفير نفقات الزواج يصرفون اهتمامهم إلى اقتناء سيارة فاخرة، أو تغيير الهاتف النقال، أو السفر والسياحة والتنزه، ويدفع عن ذهنه اي تفكير في الارتباط، وكما تؤثر على الشباب تؤثر كذلك على الفتيات حيث تصور لهن الزواج على أنه تبعية وقتل لقدراتهن وإبداعاتهن، وإنهن لن يستطعن إنجاز أي شيء في ظل مؤسسة الزواج. هذه العوامل التي ذكرتها وغيرها كثير تغدي العنوسة وتزيد من عددها، مما يؤثر سلبا على فئة كبيرة من الفتيات، إن لم أقل كلهنفيخلق لهنبعض المعاناة النفسية والتوتر، خصوصا مع الضغط الاجتماعي الذي تعيشه العانس من قبل المجتمع عامة وبعض الأسر المحافظة خاصة، حيث ينظر إليها بصفتها إنسانة سلبية، وكأنها خلقت للزواج والإنجاب فقط. هذا المصطلحنفسه"العنوسة" و بالدارجة "البايرة" هو مصطلح قدحي، وفيه نوع من الإقصاء للفتاة، ويولد لديهاتأثيرات سلبية-حسب علماء النفس-مثل: الميول إلى العدوانية الكامنة نحو النساء المتزوجات، والميول نحو الانطواء والانعزال، والتمرد على الأسرة والمجتمع بوجه عام،والشعور بالاغتراب النفسي، والعيش بمنآى عن الواقع، وسيطرة النزعة التشاؤمية من الحياة، والشعور بالإحباط المستمر. هذا التأثير لا يقف عند الفتاة العانس فقط، بل يلحق حتى الأسرة كذلك، وهنا أتحدث عن الفتاة العانس في الأسرة التقليدية -وإن كانت عادات المجتمع المغربي وتقاليده واحدة، رغم تظاهر البعضبالانفتاح والتحرر المفرط- حيث يشعر أفراد الأسرة داخليا خصوصا الأب والأم والإخوة الذكور بالإحراج والخوف من نظرات الناس، حتى ولو أظهروا العكس، فتجدهم يشكرون في بناتهم، ويلبسونهن أجمل الثياب، ويحرصون على حضورهن في الحفلات والأعراسوالمناسبات، عسى أن يجدن فارس أحلامهن هناك. وقد يلجؤون إلى السحر والشعودة للبحث عن حظهن العاثر ظانين أن الشعودة ستعيده لهن.
أما بالنسبة للعنوسة الاختيارية، والتي أصبحت شائعة وتتوسع يوما بعد يوم، لأنها تتغدى من الاستقلالية التي اكتسبتها الفتاة، ذلك أن تطور العالم من حولنا وتغيره لحظة بعد أخرى، وبالتالي تتغير معه الأفكار والنظرة حول دور المرأة وأهميتها ليست في الزواج أو داخل الأسرة فقط، وإنما في الحضور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمهني، واعتبار الزواج ليس أولوية مطلقة، وأن تحقيق الذات ليس من خلال الأسرة، بل من خلال المهنة، أو الوظيفة. ذلك أن متابعة الفتاة لدراستها يجعلها تتأخر في الزواج، وقد لا تفكر فيه بسبب إصرارها على متابعة دراستها ألتي قد تطول إلى أن تصل إلى التعليم العالي، وربما حتى الحصول على شواهد عليا، وبعد الانتهاء من الدراسة تلج ميدان العمل الذي يشعرها بتحقيق ذاتها، وكذا الاستغناء عن العائلة، وربما حتى عن الزواج، على اعتبار أن بعض العروض التي تقدم لها يغيب فيها شرط التكافؤ الاجتماعي والثقافي. كما رجحت مواقف ليبرالية كفة تحرر الفتيات من وصاية الرجل، وتبحث أكثر عن استقلاليتها المادية والمعنوية، وأن تسعى إلى اختيار شريك حياة مناسب لها وحسب مواصفاتها، باعتبارها إنسانة مكتملة بذاتها ولا يزيدها الزواج شيئا، وهي قادرة على اتخاذ القرارات المصيرية، ومنها الزواج بتروية وعقلانية بعيدا عن ضغوط المجتمع ومحدداته، مطبقة بذلك المثل الفرنسي الذي يقول: (أن تكون وحيدا خير من أن تكون رفيقا لشخص غير لائق).هذا الاتجاه الاختياري للفتيات له انعكاسات سلبية على صحة العانس بسبب تقدم العمر وتأخير الزواج خصوصا إذا ما اقتربت من سن اليأس، وهناك دراسات تؤكد أن نسبة الخصوبة عند المرأة تصل إلى القمة في سن الخامسة والعشرين، وبعد ذلك تقل تدريجيا. ونتيجة للاضطرابات الهرمونية التي تحدث في سن الإنجاب المتأخر تصبح نسبة الحمل في تناقص مستمر. وبذلك تزيد نسبة العقم عند المرأة كلما اقتربت من سن الأربعين .إن مايمكن استخلاصه هنا هو أن تأخر سن الزواج، وأزمة العنوسة تشكل مشكلة اجتماعية خطيرة تهدد المجتمع. وهي ظاهرة تخالف عادات المجتمع الذي كان ينتشر فيه الزواج المبكر للذكور والإناث. كما أن انتشار هذه الظاهرة وتوسعها جعلها لن تقف عند حد أنها تتسبب في تأخر سن الزواج فقط، بل إنها تشكل أيضا معولا لهدم القيم الأخلاقية للمجتمع بشكل عام، من خلال زيادة نسب الانحرافات الجنسية، والشذوذ، والقضاء تدريجيا على مفهوم الأسرة، على اعتبار أن الزواج ضرورة لضمان استقرار المجتمع والحفاظ على النسل، وضمان أمان المجتمع وديمومته. كما يعد الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الأسرة، وضرورة اجتماعية وبيولوجية في حياة الإنسان، فعن طريقه تتم عملية التناسل والتكاثر، أضف إلى ذلك أن العزوف عن الزواج هو تعطيل لشرعية الطاقة العاطفية الجنسية للإنسان، وقد تتوجه في طرق غير مشروعة، مما يؤدي إلى انتشار الفاحشة، واضطراب الحياة الشخصية والاجتماعية، فينتج عليه أيضا ارتفاع أعداد ما أصبح يعرف باسم "الأمهات العازبات" وارتفاع أعداد أطفال لا نسب لهم في مجتمع له نسب و ذا أصول. وقد تكون النتيجة -لا قدر الله- انقراض العلاقات الأسرية الحميمية، وبالتالي انقراض الأسرة. فعلى الدولة أن تسارع في البحث عن حلول لهذه الظاهرة، لوقف هذا النزيف الذي قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
موضوع العدد من اعداد : ذ. محمد ابركي