الصحافة بين الإرشاد والتوعية، وبين التضليل والدعاية والتكسب.
الصحافة هي جمع الأخبار وتحليلها، والتحقق من مصداقيتها ونشرها في مطبوعات. مثل الجرائد، المجلات، الرسائل الإخبارية، المطويات، الكتب، وقواعد البيانات المستعينة بالحسابات الإلكترونية. أو بمعنى آخر الصحافة هي مجموع الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة التي تنتج وتعالج وتنشر الاخبار التي تهم الأحداث الجارية. فالإعلام كمفهوم جمعي يشتمل على كافة أشكال النشاط التواصلي التي يتم من خلالها تزويد المجتمع على اختلاف أطيافه بالمعارف والأخبار والمعلومات ، باعتباره من القوى المؤثرة والمحركة في المجتمعات، مما يجعل البعض يقول إن الإعلام هو عملية اجتماعية لا تتم إلا بوجود أطراف معينة في بيئة محددة تؤثر وتتأثر، وهي عملية تواصلية تفاعلية تتم بين الإعلام والمجتمع. من هنا فالصحافة الاجتماعية هي بمثابة حلقة وصل بين المجتمع والحكومة، حيث انها صوت الشعب للحكومة، وفي نفس الوقت صوت الحكومة للشعب، فهي تغطي كافة الجوانب الاجتماعية، وتشمل كل فرد من أفراد المجتمع. وفي هذا الصدد يقول الرئيس الأميريكي " طوماس جيفرسون" (الصحافة خير أداة لتنوير عقل الأنسان، ولتقدمه ككائن عاقل أخلاقي واجتماعي). ويقول" مالكوم إكس " ( وسائل الإعلام هي الكيان الأقوى على وجه الأرض، لديها القدرة على جعل الأبرياء مذنبين وجعل المذنبين أبرياء ... ) ويقول " فيكتور هوغو" ( بما أنني أريد السيادة الوطنية في كل حقيقتها، فإنني أريد الصحافة في كل حريتها ). أما عن كيفية ظهور الصحافة، فبعودتنا إلى التاريخ نجد أن الإعلام قد مر بالعديد من المراحل المختلفة عبر مئات السنين، حيث بدأ برسائل شفوية، ثم تطور إلى قرع طبول ومزامير، وإشعال نيران في المرتفعات ، أو من خلال نقش على الأحجار وجلود الحيوانات. إلا أن الانطلاقة الأولى لوسائل الاتصال بدأت بمرحلة الاتصال غير اللفظي، من رسوم، ورموز تخص الحضارات الإنسانية المتعاقبة إلى مرحلة اللغة والإنسان الناطق، ثم إلى مرحلة الطباعة (الكتب والمخطوطات والصحف). تلتها بداية الإعلام والاتصال المكتوب ، ومن ثم إلى ظهور وسائل الإعلام التقليدية (الهاتف، الفاكس ، الإذاعة ، السينما ، والتلفزيون) لتصل إلى مرحلة الميديا الجديدة مع شبكة الأنترنيت والاتصال الرقمي . وهكذا تحول الإعلام من إعلام بدائي بسيط إلى إعلام متحضر ومعقد وخاصة خلال القرن 21 . ومن إعلام مساند للقرارات الصادرة من قبل السلطات، إلى إعلام مؤثر على إصدار القرارات، من خلال الضغط على السلطات. فالصحافة أو الإعلام بصفة عامة سيف ذو حدين: فهو أداة إرشاد وتربية وإمتاع، لكنه قد ينقلب إلى أداة تضليل وإفساد وتملق للجماهير إذا أسيء استعماله وأصبح أداة للدعاية والكسب. ويجب أن نعلم أن للإعلام قدرة كبيرة على التأثير والتوجيه في مجريات الأحداث الساخنة على الساحة العالمية. ومهما يكن فإن الصحافة قادرة على صنع الأعاجيب، ففي يدها سلاح رهيب وله مكانته ، لا سيما إذا كانت تعيش في ظل نظام ديمقراطي ، وتتمتع بالحرية. فهي بمثابة مرآة المجتمع الكبرى، حيث تساهم في تشكيل الرأي العام، ون الإعلام قد مر أن الإلام قد مر أن الإعلام قد مرأن طرح قضايا وموضوعات اجتماعية يلتف حولها جميع المواطنين ، ولها دور كبير في تكوين ورفع المستوى الإدراكي والمعرفي للفرد والمجتمع، ويمكن اعتبارها بمثابة عين الشعب التي لا تنام ، وتحرص كل الحرص على أداء عملها بشكل نزيه ومحايد. لذا على الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية، توخي الدقة والحذر في نقل المعلومة والخبر، بلغة مباشرة وواضحة ، مع الالتزام بجميع المبادئ المهنية ، من موضوعية وصدق ونزاهة. وهذا ما يجرنا إلى طرح السؤال التالي:
- هل فعلا الإعلام نزيه وغير متحيز؟ وهل يلتزم الصحفي فعلا بقدسية الخبر، و بأخلاقية المهنة؟. الواقعية والمنطق يقتضيان بأن تكون الصحافة مستقلة. لأن الصحافة المستقلة هي الصحافة التي لا تنتمي إلى أي اتجاه سياسي معين، ولا تتبنى إيديولوجيا معينة، وإنما تفسح المجال على صفحاتها لكافة الآراء والاتجاهات السياسية، والمذاهب الفكرية والاجتماعية، وهي صحف يغلب عليها طابع صحافة الخبر. لأنه كما يقال: الخبر مقدس والتعليق حر. والصحافي المستقل ملزم بأخلاقيات المهنة والضمير المهني. فالإعلام مهنة سامية ، والصحفي الجيد هو عين الجمهور على الحقيقة، لا تخطئ بوصلته، ولا يتاجر بالأحداث لكسب الشهرة المال. لكن الغريب في الأمر هو أننا نجد بعض الصحافيين الانتقائيين - سامحهم الله- يقتصر اهتمامهم على اختيار أحداث معينة، ويستندون على المصادر التي تلائمهم ، فينساقون وراء الأجندة السياسية والمصالح الاقتصادية، فتصبح الصحافة عندهم بمثابة أداة تدجين، وتزييف للحقائق، وتتلاعب بعقول الناس، وتدغدغ عواطفهم بمجموعة من المعلومات الجذابة، مما يكون له انعكاس سلبي على القارئ، وتكون النتائج وخيمة، وهذا أحد اوجه الانحراف الإعلامي عن المسار الاصلي، فيغيب التفكير النقدي للمحتوى المعروض. وهنا نتساءل أين هي الأمانة والمصداقية في نقل الخبر؟ هل أصبحت الازدواجية في التداول الإعلامي، وعدم منح الأحداث حقها من المواكبة والمعالجة الصحفية هي المقاربة الأسلم للحصول على دعم الممولين، واستمالة رضى المسؤولين ، واكتساب النجومية على المنصات؟ وهل أصبحت الصحافة أداة لإثارة الغرائز، ونشر الفضائح، وانتهاك خصوصيات الأشخاص؟. بل الاكثر من هذا هناك بعض القصص والأحداث قد تتحول إلى قضايا رأي عام عالمي، وتوظف من جانب منصات الإعلام كخبر عاجل، وحديث الساعة، في حين لا تخرج أحداث أخرى تشابهها من حيث الأهمية أو تضاهيها من حيث القيمة الخبرية، لا تنال حقها،فتمرر كخبر هامشي، يعالج ببرودة وجفاء.
إن غياب هذا التوازن الإخباري مرده إلى عدة عوامل أهمها: استراتيجية الإلهاء المتبعة من طرف أباطرة الإعلام، والشركات الاحتكارية، الهادفة إلى تضليل الجمهور بانشغاله عن بعض الأحداث الهامة المندلعة في مناطق أخرى، والتي تضر بمصالحها في حال ما تمت تغطيتها، لذا تمرر أجندتها، وتجند جيوشها الإعلامية، وخاصة الإلكترونية منها، وهناك كذلك السياسة التحريرية التي تتبناها بعض الوسيلة الإعلامية، وهي غالبا ما تكون خاضعة لأجندات القوى السياسية، وأسواق المال السياسي.
عامل آخر يتعلق بالشركات الإعلامية التي يتم إبرامها على مستوى الدول والمؤسسات الإعلامية، تحت يافطة التنسيق والتطوير الإعلامي، لكن في حقيقة الأمر هي اتفاق على القضايا الإعلامية التي يجب التركيز عليها، والتي يجب إهمالها وحجمها. قد نجد كذلك غلبة الإثارة والعشوائية و الشعبوية في الخطاب الإعلامي الموجه، على حساب الدقة في طرح الأسئلة الجوهرية. دون أن ننسى ما تقوم به وسائل الإعلام التقليدية من تماهي مع القصص الإنسانية التي تتحول إلى قضايا رأي عام على( السوشيال ميديا ) فتحاول بشتى السبل مواكبة المجريات كي لا تفقد متابعيها، وتحاول إرضاءهم. أضف إلى ذلك ضعف المهنية والحرفية لدى العديد من العاملين في مجال الإعلام، وهذا يتناقض مع مهنة الصحافة التي هي مهنة سامية، مما جعلهم يسمونها بالسلطة الرابعة مع بداية بزوغ فجر الانظمة الديمقراطية في القرنين 18 و19، حينها قال المفكر البريطاني "أدموند بروك" في إحدى جلسات مجلس البرلمان البريطاني (هناك ثلاث سلطات تجتمع هنا تحت سقف البرلمان، لكن في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعا)، حيث أطلق مصطلح "السلطة الرابعة" في البداية على الصحافة، ليتوسع في وقت لاحق ويشمل كل وسائل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع . لكن من خلال استقرائنا لواقع الصحافة ،نلاحظ ان ما يسمى بالسلطة الرابعة قد أفرغت من محتواها، وبقيت عبارة عن شعار ليس إلا. لأن الجرائد المستقلة قليلة جدا، واستقلاليتها تبقى نسبية، بالرغم من كونها قد لعبت دورا أساسيا في إعادة كتابة التاريخ الحديث ليقرأه الناس على الجرائد اليومية والمجلات الاسبوعية، وتسعى إلى تعريف المجتمع بكل ما يدور من حوله من مشاكل وقضايا تهدده. و تشكيل رأيا خاصا لهذا المجتمع. وتلهمه إلى تشكيل أفكار عما يدور في المنطقة من قضايا وحوادث. و أنها أدخلت تعددية الآراء. لكن الملاحظ هو أن هذا الدور بدأ يتقلص، وأصبح للسلطة والمال مقعدا في أغلبية هيآت التحرير. ويعرف الإعلامي" مصطفى العلوي" الاستقلالية في الصحافة على أنها (الحكم والنطق بما يجري لا بما يريد أن يوجه به ) ويضيف قائلا، إنه مهما كانت أدوار الصحافة المستقلة، فإنها تظل محدودة، لأنه لا يسمح لهذا النوع من الصحافة بأن تقوم بأدوار حقيقية، مبررا أن الذين كانوا يشتغلون في الصحافة المستقلة كانوا مهددين بالمتابعات والمحاكمات، خصوصا في العهد السابق. وهناك من عرف الاستقلالية بأخذ مسافة من السلطة السياسية وسلطة الشركة واستحضار سلطة القراء وأخلاقيات المهنة. وهناك من ذهب الى القول إنه لا يمكن تصور اي تقدم ديمقراطي في البلد بدون صحافة مستقلة جريئة ومسؤولة، داعين لدعم هذا النوع من الصحافة عن طريق دمقرطة الولوج الى سوق الإشهار، خصوصا إشهارات المؤسسات العمومية الكبرى. لأنه وكما يعلم الجميع يوجد مصدرين أساسيين لتمويل الصحافة: دعم الدولة الذي يظل محدودا، والإشهار. لذا من غير المعقول أن تستفيد بعض المنابر من الإشهار وتقصى أخرى، في الوقت الذي نجد فيه الصحافة الحزبية تحتل مكانا بارزا في المجتمع، وتحظى بدعم مالي كبير من طرف الدولة، رغم أنها تخدم بالدرجة الأولى مصلحة الحزب الذي تنتمي إليه وليس القراء، وهذا ما يجب القطع معه لأنه يجرد الصحافة من معناها الحقيقي، ويضرب في العمق مبدأ الاستقلالية، مما جعل البعض ينفي أن تكون هناك استقلالية. فنجد مثلا الدكتور " الشكدالي" في مداخلته حول سلطة الإعلام وسلطة المجتمع، يقول: ليست هناك سلطة للإعلام
بل سلطة لدى موجهي الإعلام، مع تأكيده على أن الإعلام حامل لمضامين المجتمع بما يخدم مصلحة الطبقة السائدة أو التي تتحكم في الأمور في مجتمع ما، وبالتالي فسلطة الإعلام هي سلطة تخفي عنا سلطة المتحكم في الإعلام . وهناك من ذهب إلى القول بأن "الإعلام الحيادي" هو نوع من الخرافة، فلكل وسيلة إعلامية أجنداتها واستراتيجياتها. وهناك عنصر أساسي لم يكن في الحسبان وهو الثورة الرقمية والتي كادت أن تقلب المفاهيم، حيث غيرت الأساس الذي تقوم عليه نظرية الإعلام، أي مبدأ التلقي من المرسل إلى المستقبل ، ليصير دائريا، حيث الكل مرسل والكل متلق. ورغم أن الدول تتساوى اليوم أمام ما أتاحه الفضاء الإلكتروني من معلومات وأخبار، غير أن مخرجات هذا التحرر الإعلامي جاءت مختلفة حسب تجربة كل بلد وقوانينه ومقدار الحرية الفكرية والتعبيرية المتاحة فيه. حيث نجده أكثر سلاسة في الليبراليات الغربية على العموم والمعتادة أصلا على مستويات أعلى من حرية التعبير، في حين نجده قد خلق بعض الفوضى في البلدان التي ينخفض فيها سقف الحريات. إذ وجدت السلطات نفسها قد فقدت السيطرة على وسيلة من أهم وسائل التأثير في الرأي العام وصناعته، مما يعني نوعا من الانتقال من حالة "إعلام السلطة" إلى " سلطة الإعلام ". وهنا وجب طرح التساؤل التالي: هل هذه "الحرية " التي حصل عليها الإعلام تعمل بالفعل في المنحى الصحيح، أم أن السلطة التي استحوذ عليها هي سلطة " الفوضى" فقط ؟. إن المتتبع للمجال الإعلامي يلاحظ وبالملموس ما نتج عن هذه "الحرية " من طفرات إعلامية سلبية في معظمها، تتمثل بمواقع المصداقية في العمل الإعلامي، ومع ذلك فهم قادرون على الوصول إلى المتلقي دون رقيب أو حسيب بكل ما يريدون ضخه وإيصاله دون أي اعتبار لنتائج ذلك. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أتاحت المجال أمام أي عابر في منطقة تشهد حدثا ما أن يطلق على نفسه لقب "مراسل " أو "إعلامي " وأن يصير له متابعون يتأثرون بما ينقله دون النظر إلى المصداقية أو التوجه الشخصي لصاحب الخبر، ودون الحاجة إلى وسيلة إعلامية معروفة، أو حتى موقع مرخص. هذه السهولة والسرعة في الحصول على الخبر أسهمت في تراجع دور الوسائل التقليدية، وحتى مواقعها الإلكترونية التي تحتاج عادة إلى وقت حتى تحصل على مصدر موثوق، أو تصل إلى موقع الخبر. وهذا ما دفع بمجموعة من الغيورين على مهنة الصحافة دق ناقوس الخطر، مطالبين بحماية مهنة الصحافة من التسيب والانحلال، وهناك من ذهب إلى القول بأن مهنة الصحافة قد أصبحت مستباحة، ولم يعد الولوج إليها يتطلب شروطا ومؤهلات. وأنها قد تحولت إلى ملجأ للفارين من البطالة .
وخلاصة القول إن مهنة الصحافة تتطلب إصلاحا شاملا، لأن الجميع أصبح متذمرا مما آلت إليه مهنة (السلطة الرابعة أو صاحبة الجلالة ) كما يسمونها. أو بتعبير الصحافي " جمال محافظ " الذي يعتبر أن الإعلام لم يعد السلطة الرابعة، وإنما أصبح السلطة الأولى في المجتمعات الأخرى . وقد حان الوقت لكي تسترجع الصحافة المكانة التي كانت تحتلها، والضرب بيد من حديد على المتطفلين على المهنة، والذين ربما عن جهلهم لأخلاقيات المهنة، أو بدافع التكسب والحاجة انحرفوا عن النهج الصحيح، ولم يعد همهم الوحيد سوى البحث عن " البوز " والربح بشتى الوسائل. وبما أننا في غمرة الاحتفال باليوم الوطني للإعلام والاتصال، فإننا نناشد المسؤولين عن الإعلام، وكذا جميع الإعلاميين والصحافيين بالبلاد على أن يجعلوا من 15 نونبر من كل سنة فرصة لاستشراف آفاق مهنة الصحافة وتحدياتها المستقبلية، آخذين بعين الاعتبار أننا في زمن " الذكاء الاصطناعي " .
ذ : محمد ابركي