الوضع الليلي
Image
  • 23/12/2024
- تسونامي الطلاق في المغرب بين التهويل والاستياء. - الخلفيات الأساسية لظاهرة الطلاق بالمغرب . - هل سيتحول الزواج مستقبلا من غاية إلى وسيلة ؟

- تسونامي الطلاق في المغرب بين التهويل والاستياء. - الخلفيات الأساسية لظاهرة الطلاق بالمغرب . - هل سيتحول الزواج مستقبلا من غاية إلى وسيلة ؟

موضوع العدد من اعداد الاستاذ ابركي محمد

لقد اقتضت حكمة  الله  حفظ النوع البشري إعمارا  لهذا الكون الدنيوي ، فشرّع بحكمه ما ينظم العلاقات بينه وبين الجنسين الذكر والأنثى ،( أي الزواج) ، والذي هو ضرورة اجتماعية لبناء الحياة وتكوين  الأسر ، وتنظيم أوثق العلاقات ، كما أنه أمر تقتضيه  الفطرة ، ذلك  أنه  حضانة وسكن ، وتعاون على أعباء الحياة الاجتماعية . وقد اختلف العلماء في تعريف الزواج ، كل يعرفه وفقا لمجال تخصصه ، فهناك التعريف الاجتماعي والشرعي والقانوني . فبالنسبة للتعريف الاجتماعي للزواج ، اختلف فيه  علماء الاجتماع ، حيث يرى البعض  أن الزواج هو علاقة ثابتة نسبيا  بين رجل أو أكثر ، وامرأة واحدة أو أكثر ، وتتضمن  الإشباع الجنسي ، والتعاون الاقتصادي ، ويكون معترفا به من قبل الأعراف والتقاليد أو القوانين ، وتتضمن حقوقا وواجبات معينة . وتعرّف موسوعة علم الاجتماع الزواج  بأنه " مجموعة من السلوكات  النمطية المكررة والمتوقعة ، ومجموعة من العلاقات المنظمة  التي تدوم على مر الزمن ". وهناك من العلماء من يرى أن الزواج هو " استجابة  فطرية  لنداء فطري في أصله ، هدفه بناء المجتمعات، واستمرار النوع ، وإرضاء وإشباع  نداء الغريزة  لدى الطرفين  الذكر والأنثى ". 

أما الزواج شرعا فيمكن تناوله من   زاويتين : تشريع سماوي ، وتشريع وضعي . التشريع السماوي هو ما ورد في الأديان الثلاث (المسيحية – اليهودية  - والإسلام ) ، فالزواج عند المسيحيين  هو سنة مقدسة  من الله تعالى ، وهو رباط روحي يرتبط فيه رجل واحد وامرأة واحدة ، ويعرف هذا الرباط بالزواج  الذي يتساوى فيه كل من الرجل والمرأة. أما الزواج عند اليهود فهو واجب مقدس  على كل شاب يهودي ، ويتم بطريقة  الشراء ، فالرجل يدفع ثمن المرأة ، لتصبح بعد ذلك ملكا له كأي متاع .  أما الزواج عند المسلمين   فهو عقد يفيد  حل استمتاع  الرجل بالمرأة ، وحل استمتاع  المرأة بالرجل  على الوجه المشروع .  أما بالنسبة للتشريع الوضعي  أي ( قانون الأحوال الشخصية  المغربي ) فالزواج  هو ميثاق تراض  وترابط شرعي  بين رجل وامرأة على وجه الدوام ، غايته الإحصان والعفاف ، وإنشاء أسرة  مستقرة  برعاية  الزوجين .  من خلال ما سبق من تعريفات يتضح  لنا  أن الجميع متفق  على أن الزواج  يمثل نوعا من ميثاق التراضي ، وترابط شرعي  معترف به  اجتماعيا بين الجنسين . والزواج كذلك نواة الأسرة، فيه  يتم التعاون بين أفراد الأسرة، على تحمل أعباء الحياة ، كما أنه يحافظ  على  استمرار النوع ، وبقاء المجتمعات بتعاقب الأجيال بالإنجاب  والذرية التي هي نتاج طبيعي للزواج ، ومن خلالها تنشأ الروابط الاجتماعية التي تشكل الأسرة . فالزواج هو الشرط الأساسي والأولي لقيام الأسرة و  تكوينها . وإذا كان  الزواج  شرطا أساسيا وضرورة اجتماعية  لوجود الأسرة وبناء المجتمع، وهو ترابط شرعي غايته المودة  والتعاون بين الجنسين، والابتعاد عن المعاصي ، وتحصين النفس  من المغريات المفتنة  ، والتربية على مجموعة من  الأسس و  المبادئ  التي تهدف إلى تكوين أسرة مستقرة وبالتالي مجتمعا مستقرا ، فلماذا نجد  في وقتنا الحالي أن هذا الزواج غالبا ما ينتهي  بأبغض الحلال وهو ( الطلاق) ؟ وماهي الأسباب  المؤدية إلى تفاقم  ظاهرة الطلاق  في المغرب ؟ أو بمعنى آخر ماهي المشاكل الزوجية التي تنتهي بالطلاق ؟ وكيف يمكن  معالجتها أو على الأقل التقليل من حدتها ؟ . 

  مما لاشك فيه أن الحياة الزوجية لا تخلو من مشاكل  أو خلافات بين الطرفين  لكن الأهم  هو معرفة كيفية الصمود أمامها والعمل على حلها ، وتجاوزها بكل هدوء دون الدخول في صراعات كبيرة تدمر العلاقة  بين الزوجين ، وهذه الخلافات قد تنشب مباشرة بعد الزواج، وهي ظاهرة صحية  إذا ما كان الزواج مبنيا  على أسس متينة  والرغبة في بناء أسرة مستقرة ، فتحل المشاكل بطريقة  حبية ولبقة مع بعض التنازلات من طرف الزوجين  ، دون أن تتطور الأمور وتتعقد. لكن ما هو غير مقبول  ، وهو أن تكون المشاكل دائمة ، وتتفاقم حدتها يوما بعد يوم ، ويصعب حلها. وإذا ما تمعننا في واقع الزواج الحالي ، نجده في معظمه  قد أصبح  كوسيلة لقضاء المصالح  ، وتحول إلى صفقة تميزها الماديات والمظاهر لتنتهي بمآسي  وخصومات في المحاكم ، ويكون  مصير معظمها الطلاق،  والخاسر الأكبر فيها هم الأبناء  . فزوجة اليوم لم  يعد يناسبها  دور " ربة البيت "  مقابل سقف يأويها  ووسادة تنام عليها  ولقمة تأكلها ،وتعيش البساطة، تبعا للإمكانيات المادية للزوج ، والتي كانت بالأمس القريب ،  مسلحة  بقيم الصبر والاحترام المتبادل وبالقناعة ، فكانت العشرة تطول وكان  الأبناء متميزون ومتخلقون ، وحتى إذا ما وقع خصام بين الزوجين  فيتدخل الاهل والجيران لفض النزاع والخصام وتستمر الحياة في هدوء . لكن اليوم ومع  تغير ظروف الحياة ، و مستلزماتها التي زادت وتضاعفت ، ونمط الحياة الزوجية بدوره قد تغير ، حيث اصبح التباهي بين النساء في المأكل والملبس والمسكن  ، ولم تعد المرأة تقنع بما عندها ، بل تريد أن تعيش أكثر من مستواها ، فتتظاهر بما لا تقدر عليه ، وكأنها تنتحر طبقيا ، فيصيبها الغرور ، و تريد أن تكون بطلة  يعتد برأيها  في  القرارات  التي تخص الأسرة ، وتتحرر من جميع القيود ، وتريد أن تفعل ما تشاء وكيف تشاء ، ووقت ما تشاء دون حسيب ولا رقيب .

 وأن يلبي لها الزوج كافة احتياجاتها  المادية والمعنوية ، وتنغمس في هوايات تحظى باستحسان الناس  ، وتحقيق المتعة الذاتية ، ضاربة عرض الحائط كل القيم والاخلاق التي لا  تتماشى مع رغباتها . وهذا نتاج الحرية التي أصبحت تتمتع بها المرأة بسبب مجموعة  من التحولات الثقافية والاقتصادية  والقيمية  الناتجة عن تغلغل  النيوليبرالية المتوحشة  والتي أزالت القداسة  عن كل المعايير والضوابط الاجتماعية ، والتي كانت بالأمس القريب تعتبر مقدسة ، نتج عنها  هيمنة الفردانية والأنانية على حساب  المصلحة المشتركة للزوجين . دون ان ننسى عامل الانفتاح  وتقليد الغرب ، بالإضافة إلى الحرية المفرطة التي أصبحت تتمتع بها المرأة ، والتي اكتسبتها  بالخصوص من مدونة الأسرة التي منحتها حق الوصاية ، أو السلطة على نفسها . هذا التحول على مستوى المتمثلات الغير معلنة لأحد الزوجين أو كلاهما لمؤسسة الزواج ، إلى جانب طرق العيش التي أصبحت تعتمد على الشكل أكثر من المضمون ، بالإضافة إلى غياب الوعي بالمسؤولية وطرق تدبير الاختلاف والتواصل بين الازواج .  فأصبح تفكير كل شابة اليوم  ( شابا جميلا ، وسيما ، مثقفا ، له منزل خاص ، وسيارة من آخر طراز، إدلّعها ... ) . هذا الإفراط في الحرية ، وهذه المتطلبات والمستلزمات المتعددة يجد الزوج نفسه عاجزا عن تأمينها ، مما يخلق  صراعات ومشادات بين الزوجين، تحتد هذه الصراعات وتتفاقم مع مرور الوقت ، الشيء الذي يخلق نوعا من الحقد والكراهية بين الزوجين ، فيقل الاحترام بينهما ، وقد تحتقر الزوجة زوجها وتهمله ، وهناك من تتحمل الوضع مكرهة إذا كان لها أبناء ، وهناك من  تتجه إلى البحث عن تحقيق حاجاتها المادية والمعنوية خارج مؤسسة الزواج وبطرق  غير شرعية ، وهنا نكون بصدد الحديث عن الخيانة الزوجية ، وهذا النوع من النساء تخون الرجل إذا كان فقيرا ، لأنها بحاجة إلى المال ، تخونه إذا كان غنيا لأنها في حاجة إلى المشاعر ، ستخونه إن أهملها فهي في حاجة للاهتمام ، ستخونه إن اهتم بها لأنها في حاجة أن تتنفس وتأخذ راحتها ، فهي خائنة بكل الاحوال ،  وما أكثرهن  في  عصرنا هذا .  والأمر لا يقتصر على المرأة  فقط، بل هناك بعض الرجال كذلك  الذين يبحثون عن تلبية رغباتهم  البيولوجية خارج المنزل بعدما  أحسوا أنهم غير مرغوب فيهم من طرف زوجاتهم ، أو ربما  قد كرهوا زوجاتهم ، على اعتبار أن بعض مظاهر الشك  قد استقرت داخل الأسر ، على خلفية ارتفاع منسوب الخيانة الزوجية ، التي أذكتها مواقع التواصل الاجتماعي. وقد أصبحت هذه المسالة شائعة  لدى الكثيرين ، من الرجال والنساء  على حد سواء، وربما  نوع من " الموضا " حيث لم تعد بعض النساء مرتاحات مع رجالهن ، ولا بعض الرجال مرتاحين مع نسائهم ، مما يعني عدم الإشباع الجنسي وفتور العلاقات  الجنسية الزوجية .

فيغيب التفاهم ، و يكثر العناد ، والمشاحنات اليومية  ، والغضب السريع ، والعصبية ، والتفكك الأسري ، مما يجعل تماسك الأسرة في مهب الريح ، ويتعرض الجيل الناشئ لسوء المعاملة من طرف الأبوين ، والإهمال، وعدم الاهتمام بالأبناء وتربيتهم تربية سليمة نظرا للوضع المشحون الذي يعيشون فيه مع أسرهم . والنتيجة الحتمية لمعظم الازواج هي الطلاق . وهناك بعض النساء اللائي أصبحن يتاجرن في الطلاق ، فيدفعن أزواجهن  لرفع دعوة الطلاق للشقاق  بهدف الاستفادة من مبالغ المتعة ، التي أصبحت  مبالغ فيها  ، ويكون الزوج ملزما بدفعها لصندوق المحكمة ، فيصبح الزواج بالنسبة لهن كتجارة مربحة ، تتزوجن وتتطلقن من أجل ربح المال فقط . ويكون الخاسر الأكبر في العملية هم  الأبناء  الذين لا حول لهم ولا قوة. وهناك فئة  أخرى من الأزواج متزوجون أمام المجتمع ، لكنهم منفصلون وراء الجدران ، ومجبرون على العيش دون إرادة دون مشاعر ودون حياة ، يعانون في صمت ويتحملون حفاظا على أبنائهم وأسرهم . ولا أعمم فهناك مجموعة من النساء العفيفات  والمحصنات ، وحتى من الرجال ، والذين يعيشون في مودة  و سلام ومحبة ،  والتعاون بين الرجال والنساء ، والتنازل من كلا الطرفين ، وعدم تضخيمهما للأمور ، ويربون أبناءهم  تربية حسنة .    ولتأكيد ما أقوله، أعود  إلى  نسب الطلاق في المغرب ، ففي الوقت  الذي تعرف فيه نسب الزواج انخفاضا ملحوظا، تشهد نسب  الطلاق ارتفاعا  مخيفا خلال السنوات الاخيرة ، حيث نجد أنها وصلت إلى مستوى  يجب فيه  دق ناقوس الخطر. واستنادا  إلى بيانات وزارة العدل المغربية ، فإن حالات الطلاق تحدث بمعدل 8000 حالة في الشهر ، و200 حالة في اليوم  وحوالي 11 حالة في الساعة الواحدة .  وحسب تقرير أصدره المجلس الأعلى للسلطة  القضائية، حول القضاء الأسري  في المغرب ، سجلت فيه المحاكم الابتدائية خلال الفترة ما بين سنة 2017 و 2021  ما مجموعه 588769 حالة ، تنقسم إلى حالات طلاق وتطليق، وبلغ عدد حالات الطلاق 164477 حالة  أي بنسبة 27.94 في المائة . في حين بلغ عدد حالات التطليق 424299 حالة . أي بنسبة 72.06 في المائة . ويعد طلاق الشقاق النوع الاكثر عرضا على المحكمة ، إذ بلغ عدد الحالات  خلال هذه الفترة  إلى 421036 حالة ، أي بنسبة 71.51 في المائة  ، في حين بلغ عدد حالات الطلاق الاتفاقي 123221 حالة ، أي بنسبة 20.93 في المائة . وقد كشفت المندوبية السامية للتخطيط  في تقريرها حول  المؤشرات الاجتماعية في المغرب ، أن عدد عقود الزواج  انخفضت في سنة 2022  إلى 251 ألف  عقد ، بعدما  بلغت في سنة 2021 269 ألف عقد ، وفي سنة 2019، 275 ألف عقد زواج ، وأضافت أن عدد عقود الزواج  المؤقتة  في عام 2008 وصلت إلى 307 ألف عقد زواج ، مما يعني انخفاضا واضحا في نسب الزواج خلال السنوات 15 الاخيرة . وأضاف تقرير آخر عن نفس المؤسسة ( أي مندوبية لحليمي )  تحت عنوان " المرأة المغربية في أرقام " أن عام 2022 شهد 60592 قضية  " طلاق شقاق " . وفي سنة 2023 ووفقا لتصريحات وزيرة التضامن  والإدماج الاجتماعي  والاسرة في المغرب ، فإن نسبة الطلاق في المغرب  تأخذ منحنى تصاعدي . ووفقا لإحصائيات وزارة العدل المغربية ، فقد سجلت محاكم الاستئناف 20372 حالة طلاق عام 2023 ، كما سجلت المحاكم الابتدائية 68955 حالة طلاق للشقاق ، أما الطلاق الاتفاقي  فقد بلغ 24257 حالة ، كما كانت هناك 6611 حالة طلاق خلع . كما كشف تقرير لمجلة " الإيكونوميست " البريطانية ارتفاع حالات الطلاق في الكثير من الدول العربية ، مشيرا إلى ارتفاع  نسبة النساء اللواتي يبدأن إجراءات الطلاق مقارنة بالسنوات الماضية ، وأوضح التقرير أن النساء العربيات المطلقات كن في السابق موضوع انتقاد لكنهن اليوم  يتحدين التقاليد  والأعراف  سواء في  المحكمة ، أو في سرير الزوجية ، أو لدى رجال الدين .      

 

 

 إن هذا الوضع المقلق يستدعي  تظافر جهود الجميع من أسرة ومجتمع مدني ، ومؤسسات الدولة  والتي عليها أن تبحث عن حلول ناجعة  لإيقاف هذه المعضلة والتي تنخر المجتمع وقد تؤدي إلى  ما لا تحمد عقباه . ورغم بعض المبادرات التي تشاع مثل مقترح إخضاع  المقبلين على الزواج لدورات تأهيل  تهيئهم  للحياة الزوجية  . لكن في نظري هذه مجرد حلول  ترقيعية   غير قابلة للتنفيذ  ما لم ترافقها  تدابير وإجراءات تضمن  للأزواج نوعا من الاستقرار الاجتماعي ، وذلك بضمان عمل لائق ، وتعليم ذي جودة، وتغطية اجتماعية في المستوى ، لأنه في ظل الأمية والفقر والهشاشة  لا يمكن ضمان استقرار مؤسسة الزواج .