- تسونامي الطلاق في المغرب بين التهويل والاستياء. - الخلفيات الأساسية لظاهرة الطلاق بالمغرب . - هل سيتحول الزواج مستقبلا من غاية إلى وسيلة ؟
موضوع العدد من اعداد الاستاذ ابركي محمد
لقد اقتضت حكمة الله حفظ النوع البشري إعمارا لهذا الكون الدنيوي ، فشرّع بحكمه ما ينظم العلاقات بينه وبين الجنسين الذكر والأنثى ،( أي الزواج) ، والذي هو ضرورة اجتماعية لبناء الحياة وتكوين الأسر ، وتنظيم أوثق العلاقات ، كما أنه أمر تقتضيه الفطرة ، ذلك أنه حضانة وسكن ، وتعاون على أعباء الحياة الاجتماعية . وقد اختلف العلماء في تعريف الزواج ، كل يعرفه وفقا لمجال تخصصه ، فهناك التعريف الاجتماعي والشرعي والقانوني . فبالنسبة للتعريف الاجتماعي للزواج ، اختلف فيه علماء الاجتماع ، حيث يرى البعض أن الزواج هو علاقة ثابتة نسبيا بين رجل أو أكثر ، وامرأة واحدة أو أكثر ، وتتضمن الإشباع الجنسي ، والتعاون الاقتصادي ، ويكون معترفا به من قبل الأعراف والتقاليد أو القوانين ، وتتضمن حقوقا وواجبات معينة . وتعرّف موسوعة علم الاجتماع الزواج بأنه " مجموعة من السلوكات النمطية المكررة والمتوقعة ، ومجموعة من العلاقات المنظمة التي تدوم على مر الزمن ". وهناك من العلماء من يرى أن الزواج هو " استجابة فطرية لنداء فطري في أصله ، هدفه بناء المجتمعات، واستمرار النوع ، وإرضاء وإشباع نداء الغريزة لدى الطرفين الذكر والأنثى ".
أما الزواج شرعا فيمكن تناوله من زاويتين : تشريع سماوي ، وتشريع وضعي . التشريع السماوي هو ما ورد في الأديان الثلاث (المسيحية – اليهودية - والإسلام ) ، فالزواج عند المسيحيين هو سنة مقدسة من الله تعالى ، وهو رباط روحي يرتبط فيه رجل واحد وامرأة واحدة ، ويعرف هذا الرباط بالزواج الذي يتساوى فيه كل من الرجل والمرأة. أما الزواج عند اليهود فهو واجب مقدس على كل شاب يهودي ، ويتم بطريقة الشراء ، فالرجل يدفع ثمن المرأة ، لتصبح بعد ذلك ملكا له كأي متاع . أما الزواج عند المسلمين فهو عقد يفيد حل استمتاع الرجل بالمرأة ، وحل استمتاع المرأة بالرجل على الوجه المشروع . أما بالنسبة للتشريع الوضعي أي ( قانون الأحوال الشخصية المغربي ) فالزواج هو ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام ، غايته الإحصان والعفاف ، وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين . من خلال ما سبق من تعريفات يتضح لنا أن الجميع متفق على أن الزواج يمثل نوعا من ميثاق التراضي ، وترابط شرعي معترف به اجتماعيا بين الجنسين . والزواج كذلك نواة الأسرة، فيه يتم التعاون بين أفراد الأسرة، على تحمل أعباء الحياة ، كما أنه يحافظ على استمرار النوع ، وبقاء المجتمعات بتعاقب الأجيال بالإنجاب والذرية التي هي نتاج طبيعي للزواج ، ومن خلالها تنشأ الروابط الاجتماعية التي تشكل الأسرة . فالزواج هو الشرط الأساسي والأولي لقيام الأسرة و تكوينها . وإذا كان الزواج شرطا أساسيا وضرورة اجتماعية لوجود الأسرة وبناء المجتمع، وهو ترابط شرعي غايته المودة والتعاون بين الجنسين، والابتعاد عن المعاصي ، وتحصين النفس من المغريات المفتنة ، والتربية على مجموعة من الأسس و المبادئ التي تهدف إلى تكوين أسرة مستقرة وبالتالي مجتمعا مستقرا ، فلماذا نجد في وقتنا الحالي أن هذا الزواج غالبا ما ينتهي بأبغض الحلال وهو ( الطلاق) ؟ وماهي الأسباب المؤدية إلى تفاقم ظاهرة الطلاق في المغرب ؟ أو بمعنى آخر ماهي المشاكل الزوجية التي تنتهي بالطلاق ؟ وكيف يمكن معالجتها أو على الأقل التقليل من حدتها ؟ .
مما لاشك فيه أن الحياة الزوجية لا تخلو من مشاكل أو خلافات بين الطرفين لكن الأهم هو معرفة كيفية الصمود أمامها والعمل على حلها ، وتجاوزها بكل هدوء دون الدخول في صراعات كبيرة تدمر العلاقة بين الزوجين ، وهذه الخلافات قد تنشب مباشرة بعد الزواج، وهي ظاهرة صحية إذا ما كان الزواج مبنيا على أسس متينة والرغبة في بناء أسرة مستقرة ، فتحل المشاكل بطريقة حبية ولبقة مع بعض التنازلات من طرف الزوجين ، دون أن تتطور الأمور وتتعقد. لكن ما هو غير مقبول ، وهو أن تكون المشاكل دائمة ، وتتفاقم حدتها يوما بعد يوم ، ويصعب حلها. وإذا ما تمعننا في واقع الزواج الحالي ، نجده في معظمه قد أصبح كوسيلة لقضاء المصالح ، وتحول إلى صفقة تميزها الماديات والمظاهر لتنتهي بمآسي وخصومات في المحاكم ، ويكون مصير معظمها الطلاق، والخاسر الأكبر فيها هم الأبناء . فزوجة اليوم لم يعد يناسبها دور " ربة البيت " مقابل سقف يأويها ووسادة تنام عليها ولقمة تأكلها ،وتعيش البساطة، تبعا للإمكانيات المادية للزوج ، والتي كانت بالأمس القريب ، مسلحة بقيم الصبر والاحترام المتبادل وبالقناعة ، فكانت العشرة تطول وكان الأبناء متميزون ومتخلقون ، وحتى إذا ما وقع خصام بين الزوجين فيتدخل الاهل والجيران لفض النزاع والخصام وتستمر الحياة في هدوء . لكن اليوم ومع تغير ظروف الحياة ، و مستلزماتها التي زادت وتضاعفت ، ونمط الحياة الزوجية بدوره قد تغير ، حيث اصبح التباهي بين النساء في المأكل والملبس والمسكن ، ولم تعد المرأة تقنع بما عندها ، بل تريد أن تعيش أكثر من مستواها ، فتتظاهر بما لا تقدر عليه ، وكأنها تنتحر طبقيا ، فيصيبها الغرور ، و تريد أن تكون بطلة يعتد برأيها في القرارات التي تخص الأسرة ، وتتحرر من جميع القيود ، وتريد أن تفعل ما تشاء وكيف تشاء ، ووقت ما تشاء دون حسيب ولا رقيب .
وأن يلبي لها الزوج كافة احتياجاتها المادية والمعنوية ، وتنغمس في هوايات تحظى باستحسان الناس ، وتحقيق المتعة الذاتية ، ضاربة عرض الحائط كل القيم والاخلاق التي لا تتماشى مع رغباتها . وهذا نتاج الحرية التي أصبحت تتمتع بها المرأة بسبب مجموعة من التحولات الثقافية والاقتصادية والقيمية الناتجة عن تغلغل النيوليبرالية المتوحشة والتي أزالت القداسة عن كل المعايير والضوابط الاجتماعية ، والتي كانت بالأمس القريب تعتبر مقدسة ، نتج عنها هيمنة الفردانية والأنانية على حساب المصلحة المشتركة للزوجين . دون ان ننسى عامل الانفتاح وتقليد الغرب ، بالإضافة إلى الحرية المفرطة التي أصبحت تتمتع بها المرأة ، والتي اكتسبتها بالخصوص من مدونة الأسرة التي منحتها حق الوصاية ، أو السلطة على نفسها . هذا التحول على مستوى المتمثلات الغير معلنة لأحد الزوجين أو كلاهما لمؤسسة الزواج ، إلى جانب طرق العيش التي أصبحت تعتمد على الشكل أكثر من المضمون ، بالإضافة إلى غياب الوعي بالمسؤولية وطرق تدبير الاختلاف والتواصل بين الازواج . فأصبح تفكير كل شابة اليوم ( شابا جميلا ، وسيما ، مثقفا ، له منزل خاص ، وسيارة من آخر طراز، إدلّعها ... ) . هذا الإفراط في الحرية ، وهذه المتطلبات والمستلزمات المتعددة يجد الزوج نفسه عاجزا عن تأمينها ، مما يخلق صراعات ومشادات بين الزوجين، تحتد هذه الصراعات وتتفاقم مع مرور الوقت ، الشيء الذي يخلق نوعا من الحقد والكراهية بين الزوجين ، فيقل الاحترام بينهما ، وقد تحتقر الزوجة زوجها وتهمله ، وهناك من تتحمل الوضع مكرهة إذا كان لها أبناء ، وهناك من تتجه إلى البحث عن تحقيق حاجاتها المادية والمعنوية خارج مؤسسة الزواج وبطرق غير شرعية ، وهنا نكون بصدد الحديث عن الخيانة الزوجية ، وهذا النوع من النساء تخون الرجل إذا كان فقيرا ، لأنها بحاجة إلى المال ، تخونه إذا كان غنيا لأنها في حاجة إلى المشاعر ، ستخونه إن أهملها فهي في حاجة للاهتمام ، ستخونه إن اهتم بها لأنها في حاجة أن تتنفس وتأخذ راحتها ، فهي خائنة بكل الاحوال ، وما أكثرهن في عصرنا هذا . والأمر لا يقتصر على المرأة فقط، بل هناك بعض الرجال كذلك الذين يبحثون عن تلبية رغباتهم البيولوجية خارج المنزل بعدما أحسوا أنهم غير مرغوب فيهم من طرف زوجاتهم ، أو ربما قد كرهوا زوجاتهم ، على اعتبار أن بعض مظاهر الشك قد استقرت داخل الأسر ، على خلفية ارتفاع منسوب الخيانة الزوجية ، التي أذكتها مواقع التواصل الاجتماعي. وقد أصبحت هذه المسالة شائعة لدى الكثيرين ، من الرجال والنساء على حد سواء، وربما نوع من " الموضا " حيث لم تعد بعض النساء مرتاحات مع رجالهن ، ولا بعض الرجال مرتاحين مع نسائهم ، مما يعني عدم الإشباع الجنسي وفتور العلاقات الجنسية الزوجية .
فيغيب التفاهم ، و يكثر العناد ، والمشاحنات اليومية ، والغضب السريع ، والعصبية ، والتفكك الأسري ، مما يجعل تماسك الأسرة في مهب الريح ، ويتعرض الجيل الناشئ لسوء المعاملة من طرف الأبوين ، والإهمال، وعدم الاهتمام بالأبناء وتربيتهم تربية سليمة نظرا للوضع المشحون الذي يعيشون فيه مع أسرهم . والنتيجة الحتمية لمعظم الازواج هي الطلاق . وهناك بعض النساء اللائي أصبحن يتاجرن في الطلاق ، فيدفعن أزواجهن لرفع دعوة الطلاق للشقاق بهدف الاستفادة من مبالغ المتعة ، التي أصبحت مبالغ فيها ، ويكون الزوج ملزما بدفعها لصندوق المحكمة ، فيصبح الزواج بالنسبة لهن كتجارة مربحة ، تتزوجن وتتطلقن من أجل ربح المال فقط . ويكون الخاسر الأكبر في العملية هم الأبناء الذين لا حول لهم ولا قوة. وهناك فئة أخرى من الأزواج متزوجون أمام المجتمع ، لكنهم منفصلون وراء الجدران ، ومجبرون على العيش دون إرادة دون مشاعر ودون حياة ، يعانون في صمت ويتحملون حفاظا على أبنائهم وأسرهم . ولا أعمم فهناك مجموعة من النساء العفيفات والمحصنات ، وحتى من الرجال ، والذين يعيشون في مودة و سلام ومحبة ، والتعاون بين الرجال والنساء ، والتنازل من كلا الطرفين ، وعدم تضخيمهما للأمور ، ويربون أبناءهم تربية حسنة . ولتأكيد ما أقوله، أعود إلى نسب الطلاق في المغرب ، ففي الوقت الذي تعرف فيه نسب الزواج انخفاضا ملحوظا، تشهد نسب الطلاق ارتفاعا مخيفا خلال السنوات الاخيرة ، حيث نجد أنها وصلت إلى مستوى يجب فيه دق ناقوس الخطر. واستنادا إلى بيانات وزارة العدل المغربية ، فإن حالات الطلاق تحدث بمعدل 8000 حالة في الشهر ، و200 حالة في اليوم وحوالي 11 حالة في الساعة الواحدة . وحسب تقرير أصدره المجلس الأعلى للسلطة القضائية، حول القضاء الأسري في المغرب ، سجلت فيه المحاكم الابتدائية خلال الفترة ما بين سنة 2017 و 2021 ما مجموعه 588769 حالة ، تنقسم إلى حالات طلاق وتطليق، وبلغ عدد حالات الطلاق 164477 حالة أي بنسبة 27.94 في المائة . في حين بلغ عدد حالات التطليق 424299 حالة . أي بنسبة 72.06 في المائة . ويعد طلاق الشقاق النوع الاكثر عرضا على المحكمة ، إذ بلغ عدد الحالات خلال هذه الفترة إلى 421036 حالة ، أي بنسبة 71.51 في المائة ، في حين بلغ عدد حالات الطلاق الاتفاقي 123221 حالة ، أي بنسبة 20.93 في المائة . وقد كشفت المندوبية السامية للتخطيط في تقريرها حول المؤشرات الاجتماعية في المغرب ، أن عدد عقود الزواج انخفضت في سنة 2022 إلى 251 ألف عقد ، بعدما بلغت في سنة 2021 269 ألف عقد ، وفي سنة 2019، 275 ألف عقد زواج ، وأضافت أن عدد عقود الزواج المؤقتة في عام 2008 وصلت إلى 307 ألف عقد زواج ، مما يعني انخفاضا واضحا في نسب الزواج خلال السنوات 15 الاخيرة . وأضاف تقرير آخر عن نفس المؤسسة ( أي مندوبية لحليمي ) تحت عنوان " المرأة المغربية في أرقام " أن عام 2022 شهد 60592 قضية " طلاق شقاق " . وفي سنة 2023 ووفقا لتصريحات وزيرة التضامن والإدماج الاجتماعي والاسرة في المغرب ، فإن نسبة الطلاق في المغرب تأخذ منحنى تصاعدي . ووفقا لإحصائيات وزارة العدل المغربية ، فقد سجلت محاكم الاستئناف 20372 حالة طلاق عام 2023 ، كما سجلت المحاكم الابتدائية 68955 حالة طلاق للشقاق ، أما الطلاق الاتفاقي فقد بلغ 24257 حالة ، كما كانت هناك 6611 حالة طلاق خلع . كما كشف تقرير لمجلة " الإيكونوميست " البريطانية ارتفاع حالات الطلاق في الكثير من الدول العربية ، مشيرا إلى ارتفاع نسبة النساء اللواتي يبدأن إجراءات الطلاق مقارنة بالسنوات الماضية ، وأوضح التقرير أن النساء العربيات المطلقات كن في السابق موضوع انتقاد لكنهن اليوم يتحدين التقاليد والأعراف سواء في المحكمة ، أو في سرير الزوجية ، أو لدى رجال الدين .
إن هذا الوضع المقلق يستدعي تظافر جهود الجميع من أسرة ومجتمع مدني ، ومؤسسات الدولة والتي عليها أن تبحث عن حلول ناجعة لإيقاف هذه المعضلة والتي تنخر المجتمع وقد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه . ورغم بعض المبادرات التي تشاع مثل مقترح إخضاع المقبلين على الزواج لدورات تأهيل تهيئهم للحياة الزوجية . لكن في نظري هذه مجرد حلول ترقيعية غير قابلة للتنفيذ ما لم ترافقها تدابير وإجراءات تضمن للأزواج نوعا من الاستقرار الاجتماعي ، وذلك بضمان عمل لائق ، وتعليم ذي جودة، وتغطية اجتماعية في المستوى ، لأنه في ظل الأمية والفقر والهشاشة لا يمكن ضمان استقرار مؤسسة الزواج .